الحياة الاجتماعية في ظل كورونا - تعبيرية
هل عودتنا ظروف كورونا على حب المكوث في منازلنا؟
"لا يمضي على ذهابي لزيارة ابنتي نصف الساعة حتى أشعر بملل وضيق، وأتوق للعودة لبيتي، فعلى ما يبدو، قد عودتني ظروف كورونا على المكوث به، بل، وعدم الاكتراث لأي زيارات او تواصل مع الآخرين"، هذا ما عبرت عنه ربة البيت الستينية أم يوسف، مبدية، ودون أن تعرف الأسباب، انزعاجها وقلقها من القيام بأي نشاط خارج منزلها، وهي التي كانت تعج بالنشاط والحيوية والأعمال التطوعية قبل سيطرة الجائحة على العالم، بحسب تعبيرها.
وكذلك يعبر أبو بشار، موظف في أحدى الشركات الخاصة، عن امتعاضه لإصرار زوجته على الذهاب لأي نزهة، أو زيارة عائلية، بل وصل معه الحد لان يشعر بضيق في التنفس والملل غير المبرر، كلما هم بمغادرة المنزل لشأن ما، مستغربا من تحول طباعه الاجتماعية، من حب للناس والتواصل، الى تفضيله الهدوء وعدم مبارحته للمكان. ويرى ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، أن ظروف كورونا من حجر وحظر واغلاقات وخوف من العدوى بفيروس كورونا، قد القت بظلال ثقيلة على أنماط التفكير بطرق التواصل والالتقاء بالآخرين، فمنهم من اعتاد على المكوث بالبيت والاعتماد على التواصل عبر الشبكات الاجتماعية، ودون الشعور باي ملل، فيما اشتاق آخرون للتواصل والسفر والتلاقي مع الاصدقاء، مع مراعاتهم، حكما، لشروط السلامة الصحية الوقائية كافة، ولا سيما حينما اعادت الحكومة النظر بعدد ساعات الحظر عطفا على الحالة الوبائية التي شهدت حينها انخفاضا في عداد الاصابات والوفيات.
متخصصون يؤكدون، أن ما ذهب اليه بعضهم من حب للمكوث بالمنازل، وتعودهم عليها، وعدم شعورهم بالرغبة في مغادرتها لساعات طويلة، مرده إلى أن الطبيعة البشرية تتأقلم وفقاً للعادة والظرف، حيث أن حيثيات الجائحة فرضت على الجميع نمطا قسريا من سجن مجازي طوعي، يحمي ويقي من المرض والعدوى، ولكنه، في الوقت عينه، يحرم المرء من طبيعته المفطورة على حب التعارف والاختلاط الاجتماعي والتعاون والمشاركة، داعين الى أهمية الاندماج المجتمعي المشفوع بكل سبل الوقاية وتحصين النفس من براثن الانعزال والخوف والشك، والى أهمية معالجة اضطرابات المزاج. أستاذ علم الاجتماع والفكر التنموي الدكتور سالم ساري يقول: إن الانسان بطبيعته يحب الانطلاق والتجدد وتغيير أنماط حياته اليومية، وقد اعتاد قبل كورونا على حياة بخريطة واضحة، ومنها العمل والزيارات والاختلاط والسفر، وكل ذلك خارج المنزل، ولكن حين يحرم من كل هذا دفعة واحدة، فان صدمة ما قد أصابت منه مقتلا اجتماعيا معينا، قادته الى التقوقع والبعد عن الناس.
ويتابع: كل ما سبق أدخل المرء في محظورات قسرية، وسلسلة من الممنوعات المتداخلة، رغم اهمية ذلك لحمايته وللحفاظ على صحته، لكن برمجة العقل والجسد، يرفضان أي طارئ قد يحجم من انطلاقتهما وسعيهما للتطور والتجدد والحركة الدؤوبة، الأمر الذي ترك بصمته، على شكل برمجة جديدة جعلت من المنزل ملاذا آمنا، وبالتالي صار الاعتياد عليه من البديهيات. ويستدرك الدكتور ساري، بأن على الجميع الخروج من حالة العزلة تدريجيا، وبما يتناسب ويتماشى مع الحالة الوبائية، حكما، مع الالتزام التام بالإجراءات الوقائية، من تباعد وتعقيم وارتداء للكمامات النظيفة المتجددة دوما، مشددا على أن الخوف المستمر والعزلة الاختيارية الدائمة، غير المبررة لذاتها، من العوامل التي تضعف المناعة وتفقد الانسان لجزء كبير من قدرته على المقاومة التلقائية للأمراض، ذلك أن الجسم هو كناية عن آلة ضخمة جدا قادرة على مقاومة المرض ذاتيا، تساعدها في ذلك قدرة العقل على الاستجابة والتحدي. وفي السياق عينه، يقدم العديد من النصائح التي تسهم في الخروج من حب بعضهم لحالة العزلة التي فرضتها ظروف كورونا، ومن ذلك، ما أسماه بالتسامح الاجتماعي، والاندماج التدريجي، والعودة الآمنة للحياة الطبيعية، والحرص على الخروج من المنزل لزيارة عائلية، أو المشي في الهواء الطلق، أو التسوق وزيارة الاماكن العامة كالحدائق والمتنزهات، أو السفر، لمن تساعده قدراته المادية على ذلك، أو المشاركة في الأعمال التطوعية، أو الندوات والمحاضرات والحوارات، وجاهية كانت أم عبر تقنيات التواصل الالكتروني، مذكرا بأن الأمراض العضوية تنمو وتتطور مع تردي الحالة النفسية التي يسكنها الخوف والتردد والشك والتقوقع. ويدعو الدكتور ساري، الى ضرورة تعزيز القيم التي تدعم سير الحياة من حب للمواجهة والتواصل مع الآخر والاكتشاف والاصرار على النجاح، والارادة التي تهزم كل ما يعترض طريق الانسان، وتحرير الذات من سجون التفكير السلبي والخوف من المستقبل، لافتا الى ان الأقوياء هم من يطوعون الظروف لصالحهم وهم الأقدر على تخطي المصاعب مهما اشتدت.
الأستاذ المشارك في علم النفس السريري في جامعة عمان الأهلية الدكتور أحمد مطارنة، يقول: "سابقا كنا نتكلم عن الأمراض في جوانبها العضوية المختلفة، ولكن الآن ومع تزايد ضغوطات الحياة، لا يمكن الحديث عنها بمعزل عن الجوانب النفسية، حيث تشير الدراسات، وعلى أثر كورونا الى تصاعد ارقام الإصابات بأمراض القلق والكبت والاكتئاب والسمنة والخوف من الاختلاط، وغير ذلك". ويوضح، ان ما يحدث مع البعض من تململ وقلق وتغيير لحظي في المزاج، يزيد حالتهم سوءا لأنهم لا يجدون له أي تفسير، فنرى أحدهم يكون قد خطط لزيارة ما، وفجأة ينقلب رأيه، ويعدل عن فكرته، دون أن يدري لماذا، مشيرا الى أن ذلك يسمى، باضطرابات في المزاج، جراء العديد من الأمراض النفسية، ومنها الاكتئاب الذي يزيد من حدته الانعزال، والوحدة، وعدم التواصل. ويبين الدكتور مطارنة، أن ظروف كورونا ربما عودت الأشخاص على المكوث بالمنزل، ذلك أن كلفة الاختلاط كانت عالية صحيا ونفسيا، ولكن مع تخفيف إجراءات الحظر والاغلاقات، لابد من تجاوز مراحل الخوف المصحوبة باكتئاب المرحلة السابقة، مستدركا أن بعضهم أحب المكوث بالمنزل ليس بسبب مرضه النفسي، ولكن لأن العمل والتعليم والشراء والبيع كان وما زال حتى اللحظة، عبر "الانترنت"، ما جعله يشعر براحة وهو في بيته، الأمر الذي قلل أيضا من اعبائه الاقتصادية في التبضع الاستهلاكي الذي لا حاجة له به. وينصح بضرورة المعالجة الذاتية لاضطرابات المزاج، ومن ذلك: التدرب على التكيف مع الظروف، والاعتماد على برامج إدارة الوقت، واتباع البرامج الغذائية الصحية، وممارسة الرياضة ولو بأبسط اشكالها، كالمشي والتمارين الخفيفة في المنزل، وضبط الساعة البيولوجية، مؤكدا أن كل ما تقدم يحصن النفس من العزلة، ويقودها الى حب الانطلاق والعودة الى الحياة الطبيعية، ما قبل كورونا، حيث التعامل مع حب المكوث في المنزل بالشكل الاعتيادي، دون الخوف من مغادرته، والتعود على جدرانه، ونبذ التواصل أو استقبال الناس أو الالتقاء بهم.