مواقف بطولية للجيش العربي الاردني في حرب حزيران 67
رؤيا – بترا - من جبل المكبر الى تل الذخيرة , ومن حي الشيخ جراح الى تلة الرادار , يرقد شهداء الجيش العربي الاردني في القدس , وسائر أرجاء الضفة الغربية , اولئك الذين خاضوا حرب حزيران العام 1967 برجولة مقبلين غير مدبرين بعقيدة وايمان لم يخشوا عدة العدو ولا عدده ولا تفوقه بالامكانات ، فاستبسلوا وقدموا النفس فداء للقدس .
كانت الخنادق بالنسبة لهم بداية النصر أو مرقد الشهادة , حرصوا على عروبة المكان والحق العربي فيه , وتجسدت وحدة المصير والدم الاردني والفلسطيني فوق الارض وتحتها , فقبور الشهداء الاردنيين جاورت قبور ابناء القدس المرابطين في مسيرة نضال امتزجت فيها التضحية بحب الارض , هكذا كان المحاربون من الجيش العربي الاردني ، جمعتهم ارض المعركة , فقاتلوا بشرف واستبسال , ودافعوا عن ثرى فلسطين والقدس ، نزفت منهم الدماء وهم ينظرون حينا الى الشهادة وحينا آخر الى الاقصى الشريف .
رغم خسارة الدول العربية في هذه الحرب , إلا ان المحاربين من هذا الجيش العربي المصطفوي كانت لهم مساهمات وقصص بطولية في هذه الحرب الحزينة , اذ تحدث عدد منهم لوكالة الانباء الاردنية (بترا) بقولهم : ان ابطال الجيش العربي الاردني لم يتقهقر جبينهم ، وقاتلوا بكل قوة وعزم وايمان، وضربوا مثلاً أعلى في الصمود والبسالة والتي اعترفت بها قوات العدو .
المقدم المتقاعد نبيه السحيمات قال انه وبعد تسلمه قيادة السرية الثالثة من كتيبة الحسين الثانية " كنّا في روح معنوية عالية وزودنا بالاسلحة , وكانت هناك الاستعدادات لدى جميع القوات المسلحة في منطقة الضفة الغربية والقدس تحديداً , وكانت الاوامر الصادرة من قبل القادة تحث على الاستعداد التام واليقظة وبذل الغالي والرخيص في سبيل حماية حدودنا وقدسنا والدفاع عنها " .
واضاف " أما منطقة مسؤوليتي في السرية الثالثة ، فقد كانت تبدأ من منطقة باب العامود إلى جهة الغرب حتى منطقة (مند البوم) مروراً بشارع المصرارة واحد, والمصرارة اثنين وجامع سعد وسعيد بمحاذاة الجدار الذي يفصل بين المصرارة والمنطقة الحرام في القدس الشريف وحتى الشيخ جراح عند دار الخطيب , وهذه المسافة جميعها لا تتجاوز 800 متر تقريبا .
واشار الى ان جنود الجيش العربي في هذه المنطقة لا يبعدون عن قوات الاحتلال الاسرائيلي مسافة 5 أمتار، وفي بعض المواقع اقل من ذلك وهذه حقيقة واقعية وجغرافية يعرفها كل من يعرف المنطقة ، إضافة إلى "مسؤوليتي عن الحراسة والدفاع عن محافظة القدس والبريد الآلي وإذاعة القدس وجميعها وسط المدينة المقدسة " .
وتابع السحيمات " في يوم الأحد الرابع من حزيران 1967 حلقت طائرة تصوير خفيفة فوق مناطقنا، وأطلقنا عليها النار من رشاشات 500 وأسقطناها وجاءنا شكر على ذلك من المرحوم الشريف ناصر بن جميل الذي كان نائبا للقائد العام للقوات المسلحة, كما انه وبعد الحادثة هذه مباشرةً زارنا سمو الأمير محمد بن طلال ".
واوضح ان المعركة بدأت في الخامس من حزيران بالأسلحة الخفيفة ثم المتوسطة ثم الأسلحة الثقيلة كمدفعية 25 رطلا التي كانت ملحقة بنا في المنطقة الشرقية من القدس وهي كتيبة المدفعية التاسعة 25 رطلا بقيادة المقدم محمد الحصان ، واستمر القتال حتى الليل والذي حاولت قوات الاحتلال بكل وسائلها الدخول من بوابة (مند البوم) ، إلا أن مرتب السرية ضباطاً وضباط صف وأفرادا استطاعوا صدها وايقاف تقدمها بتركيز جميع الاسلحة خاصة مدفعية 25 رطلا باتجاهها حيث حاولت قوات الاحتلال الهجوم اربع مرات لكنها فشلت .
وقال ان المعتدين استخدموا كشافات قوية جداً وقنابل غاز يسبب النعاس , وهنا قامت مرتبات السرية بقصف مواقع هذه الكشافات بمدافع 4.2 بوصة التي كانت تجاور مواقع(UN) وأدركت قوات الإحتلال استحالة الدخول من بوابة مند البوم إلى القدس الشرقية .
واضاف ان القتال انتقل إلى مواقع السرية الأولى بقيادة حمود أبو قاعود الذي عزز مواقعنا وذلك بين مواقع السرية الثالثة والسرية الثانية في الشيخ جراح ، وحدث مع السرية الأولى ما حدث مع السرية الثانية , إذ سمعت على الجهاز اللاسلكي قادة السريتين الثانية والأولى يبلغان قائد الكتيبة بأن قوات السريتين يشتبكون بالسلاح الابيض مع قوات العدو , مشيرا الى "ان قائد اللواء العميد الركن عطا علي كان على اتصال معي للوقوف على سير المعركة، وكان يتم طوال الليل تزويدنا بالذخيرة المختلفة".
وتابع انه وفي صباح الثلاثاء " ابلغني قائد الكتيبة ان إسرائيل احتلت منطقة السرية الثانية في الشيخ جراح (تل الذخيرة) واحتلت مواقع السرية الأولى والتي تقع بين سريتي الثالثة والثانية، وقوات الاحتلال الاسرائيلي الآن متوجهة إليك إلى مواقعك، وأوصاني بقوله : أبوي نبيه القتال من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت والنار ولا العار, وأجبته ابشر يا أبو مازن لن تسمع عنا إلا كل طيب إن شاء الله ".
وقال " قمت بإعادة توزيع الجنود والأسلحة المقاومة للدروع في مواقع جديدة داخل مدينة القدس عند نقاط اقتراب دبابات قوات العدو ، حيث أصبح القتال قتال شوارع ومناطق مبنية , وبالفعل وصلت قوات العدو من عدة محاور " وابلغني قائد الكتيبة منصور كريشان بأن جميع الدبابات الموجودة في المنطقة هي دبابات معادية وجرى الاشتباك معها وبقينا نقاتل طيلة يوم الثلاثاء بشكل فردي وجماعي، حيث استشهد من استشهد واسر من اسر، وشاهدت الشهداء ، واستمر القتال متفرقا إلى صباح الأربعاء" .
المقدم المتقاعد الدكتور غازي ربابعة قال انه التحق بالمعركة في اليوم الاول منها وبعد ان اندلعت ، وأثناء ذهابه من عمان إلى القدس كان يستمع إلى الإذاعة الأردنية والنداءات الحماسية تنطلق منها , والشيخ إبراهيم زيد الكيلاني عبر اثيرها يحث على الجهاد ،" مشيرا الى انه وما ان أقبل على القدس رأى الدخان يتصاعد من جبل المكبر، إذ قواتنا الباسلة قامت بالاستيلاء عليه وواصلت مسيرها نحو المتحف في القدس مقر قيادة كتيبة الحسين الثانية" .
واضاف انه عمل بداية كضابط استخبارات لكتيبة الحسين الثانية ثم عُيّن قائد فصيل في موقع (مند البوم) والدار الحمراء , وفي هذا الموقع كانت المسؤولية دفاعية حيث تلقى الأوامر من قائد الكتيبة الرائد منصور كريشان بالتوجه إلى بوابة (مند البوم) إذ ان الدار الحمراء التابعة لها قد هدمت وان على الجنود التحرك إلى ذلك الموقع، وعند الوصول شاهد الجندي سمارة منيزل يلفظ أنفاسه الأخيرة بعدما ما كان يطلق قذائف الهاون على العدو من مدفع هاون صغير , وبقصف معاكس أصيب بشظية مدفعية برأسه فاستشهد , واصيب عدد من الجنود.
وقال انه وعند الوصول إلى الدار الحمراء تولى قيادة المجموعة العسكرية المكونة من : قسم في مند البوم وآخر في الدار الحمراء التي تأتي على تماس مع خط الهدنة اتخذتها القوات الأردنية كمركز مواجهة مع العدو ، وهي تلاصق مدرسة المطران وتبعد عن المواقع العسكرية الإسرائيلية من 10-15 مترا فقط، حيث خطوط التماس بيننا وبين العدو متقاربة واستمر تبادل إطلاق النار حتى حل الظلام، وكانت تسيطر على ارض المعركة الرمايات بالأسلحة الخفيفة والرشاشات المتوسطة.
واضاف ان العدو حاول وبكثافة نيران كبيرة الاقتحام في ساعات متأخرة من الليل , وهنا طلب ربابعة كما تابع من قيادة الكتيبة صب نيران المدفعية الثقيلة على مواقع قوات العدو المتقدمة ففعلت المدفعية الأردنية فعلها، مشيرا الى انه كان يسمع صراخ جنود العدو .
وقال الدكتور ربابعة : هاجمت قوات العدو موقع السرية الثانية بعد ان انهارت الجبهة المصرية بصورة غير متوقعة حيث نقلت قوات العدو لواء مظليا لكي يتعامل مع منطقة الشيخ جراح , وهي قوات خاصة مدربة وتقاتلنا معها , مبينا انها صبت جام غضبها على موقع السرية من خلال الطائرات والمدفعية الثقيلة وكل أنواع الأسلحة اضافة الى كاسحات الألغام لكنها فشلت في اختراق مواقع جنود السرية الأبطال.
وقال " كنت أرى وعن بعد ضوء بطارية أنوار وضعها الاسرائيليون على الكنيست , فحولت القدس إلى نهار، كما رأينا أجساد قوات العدو معلقة على الأسلاك الشائكة، إلا انهم لم ينجحوا في اختراق مواقع السرية والتي تعرضت للهجوم القوي والعنيف من قبل اللواء المظلي الذي فشل في اجتياح مواقع السرية من الأمام ".
وقال الدكتور ربابعة " في الشيخ جراح ، كانت الملحمة البطولية التي خاضتها السرية الثانية من كتيبة الحسين الثانية واستشهد فيها 97 من ضباط الصف وجنودنا الابطال من أصل 108 ولم يخرج من هذه السرية سوى خمسة جنود وقائد السرية , جرحى , إذ دارت معارك داخل الخنادق وبالسلاح الابيض , ولأهمية هذه الملحمة وضع الاسرائيليون على تلة في الشيخ جراح نصباً تذكارياً لـ19 جنديا أردنيا كتبوا عليه (هنا قتل 19 جنديا أردنيا بطلا).
وقال " في ملحمة الشيخ جراح رأينا رجالا لم يتقهقر جبينهم، استشهدوا جميعهم في موقع واحد، وقاتلوا بكل قوة وعزم وايمان، وضربوا مثلاً أعلى في الصمود , مشيرا الى ان العدو اعترف ببطولة هؤلاء الذين صمدوا، ولم يستسلموا، وفي المتحف الإسرائيلي اعتراف باسماء مقتل 185 جنديا اسرائيليا قضوا في موقع هذه السرية" .
" قصفت مدفعية الجيش العربي الاردني المواقع الاسرائيلية بالقرب من القدس بتركيز وعنف شديدين , وصفها قادة العدو الإسرائيلي آنذاك بالـ (المدفعية المسعورة) لشدة قصفها وتأثيرها , وتكبدت القوات الإسرائيلية خسائر جسيمة بين أفرادها وآلياتها " وفقا للجندي آنذاك محمد صبح الخوالدة من كتيبة الحسين الثانية / السرية الثالثة .
وقال وهو الذي كان يعمل مأمور اتصال في القيادة الحربية , ان الكتيبة استخدمت ومنذ بدء المعركة رشاشات 500 ومدافع 106 ومدافع الهاون 3 انشات وكثفت نيرانها وذلك بعدما اعطى قائد الكتيبة أمر اطلاق النيران نظرا لوصول خبر ان القوات الاسرائيلية دمرت الطيران المصري وانه لا توجد حماية جوية وانه لا مجال الا الاستبسال في ارض المعركة .
وقال ان قوات الكتيبة الثالثة استطاعت وقت الظهر من اليوم الاول للمعركة الدخول الى خط 48 , مشيرا الى انه تعرض اثناء خروجه من موقع القيادة الحربية لتوصيل معلومة لقائد احدى السرايا لطلقة من احد قناصي قوات العدو , إذ جاءت على طرف من كتفه إلا انه استمر في عمله وبقيت المعركة في ذروتها طوال اليوم الاول , وكانت السرية الثانية تدافع بكل قوتها ما اسفر عن استشهاد مئة واربعة شهداء منها , الامر الذي جعل من قائد الكتيبة ان يأمر السرية الثالثة بالذهاب نحو اسوار القدس للدفاع عن الاقصى .
وفي صبيحة اليوم الثاني من المعركة قامت قوات العدو بانزال المظليين بالقرب من اسوار القدس وهناك احتدم تبادل اطلاق النيران وكان قادة السرايا يرفعون من الروح المعنوية لجنودنا , مبينا ان جنود الجيش العربي الاردني حول اسوار القدس لا يفكرون إلا بالنصر او الشهادة لهذا كانوا قد التحموا مع قوات العدو بالقرب من القدس بالقنابل اليدوية والحراب والأيدي وبضراوة كبيرة .
وتابع الخوالدة : شاهدت الجندي سمارة المنيزل في الليلة الثانية من المعركة يرمي من على رشاش 500 بقوة كبيرة جدا واثناء ذلك تمت اصابته من قبل قوات العدو واسعافه , موضحا ان اغلب جنودنا في كتيبة الحسين الثانية استشهدوا واصيبوا , وهذا يدل على مدى التضحية بانفسهم في دفاعهم عن القدس .
وفي منطقة المصرارة بالقرب من القدس تعرض مركز القيادة الحربية لقذيفة ادت الى اصابة الخوالدة بشظايا متعددة في جسده وبعد ذلك رأى دبابة العدو التي قصفت مركز القيادة تقف بالقرب منه , ومن فوقها جندي اسرائيلي يستطلع الموقع فاطلق عليه النار رغم ان احدى عينيه اصيبت , قائلا " انني وفي ظل الاصابات المتعددة التي تعرضت لها لم اتوقع انني وبعين واحدة متعبة ولا اكاد ارى فيها استطعت ان اقنص ذاك الجندي المعتدي " .
وقال انه وبعد ذلك تعرض موقعه لوابل من الرصاص الكثيف ما استدعى احد زملائه ان يسعفه ونقله الى مستشفى (موس بس) حيث تلقى العلاج على ايدي الراهبات اللاتي كن يعملن به .
واشار الى ان كتيبة الحسين الثانية استبسلت في المعركة وابلت بلاء حسنا لقوة الايمان بالله وشجاعة قائدها منصور كريشان الذي استشهد في معركة الكرامة , اضافة الى انها تحمل اسم الحسين الذي كان وباستمرار يزورها وتربطه بالضباط والجنود علاقات وطيدة .