الشموسة
"الشموسة".. من مدفأة منزلية إلى ملف وفاة جماعية يهز الأردن
- أودت بحياة تسعة أشخاص، بينهم أطفال، في محافظة الزرقاء
لم يكن يخطر ببال العائلات التي أغلقت نوافذ منازلها اتقاء لبرد كانون، أن وسيلة التدفئة التي اختارتها بحثا عن الدفء ستتحول إلى سبب مباشر لفقدان الحياة، خلال ساعات قليلة، تحولت مدفأة الغاز المعروفة شعبيا في الأردن باسم "الشموسة" من منتج منزلي رائج إلى محور صدمة وطنية، بعد أن ارتبط اسمها بسلسلة وفيات مأساوية أودت بحياة تسعة أشخاص، بينهم أطفال، في محافظة الزرقاء.
ساعات ثقيلة، ومشهد واحد يتكرر في منطقة الهاشمية، المشهد كان متشابها حد التطابق، منزل مغلق، مدفأة غاز مشتعلة، وأجساد بلا حراك، في الحادثة الأولى، فقدت أم وأطفالها الأربعة حياتهم اختناقا داخل منزلهم.
وبعد وقت قصير، سجلت حادثة ثانية في المنطقة نفسها، خلفت أربعة وفيات من عائلة أخرى، في واقعة عززت الشكوك حول وجود عامل مشترك يتجاوز الصدفة، التحقيقات الأولية لمديرية الأمن العام حسمت الأمر سريعا، مدفأة "الشموسة" كانت القاسم المشترك، وغاز أول أكسيد الكربون كان القاتل.
القاتل الصامت
القاتل الصامت أول أكسيد الكربون غاز عديم اللون والرائحة، لا يمنح ضحاياه فرصة الشعور بالخطر، يتسلل بهدوء، يعطل وصول الأوكسجين إلى الدماغ، ويؤدي إلى فقدان الوعي ثم الوفاة، في حالات كثيرة، ينام الضحية دون أن يستيقظ، وهو ما يجعل هذا الغاز من أخطر نواتج الاحتراق غير الكامل لوسائل التدفئة.
وفق الجهات الرسمية، فإن تشغيل المدفأة داخل أماكن مغلقة، أو وجود خلل فني، أو ضعف التهوية، كلها عوامل قد تؤدي إلى تراكم هذا الغاز القاتل، وهو ما يبدو أنه حصل في الحوادث الأخيرة، وتحرك رسمي تحت ضغط الفاجعة مع تزايد أعداد الضحايا، دخلت الأجهزة الرسمية في سباق مع الوقت، مديرية الأمن العام أعلنت مباشرة عن بدء إجراءات ميدانية شملت: فحص عينات من مدافئ "الشموسة" المتداولة في الأسواق، وتنفيذ جولات تفتيش مشتركة على المحلات والمصانع، والتحفظ على كميات من المدافئ تمهيدا لمنع بيعها مؤقتا.
ما هي الشموسة؟
قبل أن تصبح عنوانا للفاجعة، كانت "الشموسة" واحدة من أكثر المدافئ انتشارا في السوق الأردني، تسوق على أنها مدفأة غاز اقتصادية، قادرة على العمل لفترات طويلة تصل "وفق الإعلانات" إلى 18 يوما باستخدام جرة غاز واحدة، تباع بأسعار مغرية نسبيا، تتراوح بين 25 و 35 دينارا أردنيا، ما جعلها خيارا شائعا لدى الأسر محدودة ومتوسطة الدخل، وتعرض تحت قائمة طويلة من "مواصفات الأمان"، من بينها:
حساس أوتوماتيكي للأوكسجين.
حساس ميلان واهتزاز.
نظام إطفاء تلقائي.
إشعال إلكتروني داخلي.
تصميم معدني وشبك كروم.
كما تقدم عبر حملات تسويقية بشعارات مثل: "دفء ذكي وأمان متكامل"، "تشغيل آمن وسهل"، و"صناعة أردنية مع كفالة"، لكن الأحداث الأخيرة وضعت كل هذه الادعاءات تحت مجهر الشك.
من منحها الثقة؟ السؤال الذي تصاعد بقوة في الشارع الأردني لم يعد تقنيا فقط، بل رقابي وأخلاقي، كيف دخلت هذه المدافئ إلى آلاف المنازل؟ ومن الجهة التي صادقت على سلامتها؟ وهل خضعت فعلا لاختبارات كافية تحاكي ظروف الاستخدام الواقعي داخل المنازل؟ الرأي العام يرى أن تكرار الحوادث خلال ساعات، وفي موقع جغرافي واحد، يشير إلى خلل أعمق من مجرد "سوء استخدام"، ويفتح الباب أمام احتمال وجود مشكلة تصميم أو تصنيع، أو ضعف في أنظمة الأمان المعلن عنها.
بين المسؤولية الفردية والرقابة المؤسسية لا تعفي التحذيرات المتكررة حول التهوية وعدم تشغيل المدافئ أثناء النوم الأفراد من جزء من المسؤولية، لكن في المقابل، يطرح مختصون سؤالا جوهريا: هل يجوز طرح جهاز منزلي في الأسواق، يستخدم لساعات طويلة داخل البيوت، إذا كان يتطلب مستوى عاليا من الحذر كي لا يتحول إلى أداة قتل؟ يرى مراقبون أن مسؤولية السلامة لا تتوقف عند المستهلك، بل تبدأ من:المصنع، الجهة المرخصة، المؤسسة الرقابية، آليات الفحص قبل وبعد التداول.
ماذا قالت لجنة الطاقة والثروة المدنية النيابية؟
في تطور جديد على ملف مدافئ الغاز غير الآمنة، ناقشت لجنة الطاقة والثروة المعدنية النيابية، يوم الأحد، سلسلة حوادث الاختناق التي شهدتها المملكة مؤخرا، وأودت بحياة مواطنين، في مقدمتها الحوادث المرتبطة بمدافئ الغاز المعروفة شعبيا باسم "الشموسة".
وقال رئيس اللجنة، الدكتور أيمن أبو هنية، إن الأردن فقد خلال الأيام الماضية 14 روحا أردنية نتيجة حالات اختناق ناجمة عن تسرب الغاز من إحدى وسائل التدفئة، مؤكدا أن اللجنة لن تتهاون في ممارسة دورها الرقابي، وأن محاسبة المقصرين أولوية لا تقبل التأجيل.
وأضاف أبو هنية، خلال اجتماع طارئ خصص لمناقشة الحوادث الأخيرة، أن سلامة المواطنين وحماية أرواحهم ليست محل نقاش أو مساومة، مثمنا في الوقت ذاته جهود جهاز الدفاع المدني والأجهزة الأمنية في التعامل مع الحوادث وإنقاذ الأرواح.
الملف مفتوح بانتظار التقرير الفني
وشدد رئيس اللجنة، بحضور وزير الصناعة والتجارة والتموين يعرب القضاة، ومديرة مؤسسة المواصفات والمقاييس عبير الزهير، ومدير الدفاع المدني العميد ناصر السويلميين، والرئيس التنفيذي لشركة مصفاة البترول الأردنية حسن الحياري، على أن هذا الملف سيبقى مفتوحا إلى حين صدور التقرير الفني النهائي الذي سيحدد أسباب الحوادث والمسؤوليات بشكل واضح.
من جهتهم، أكد النواب الحاضرون ضرورة محاسبة أي جهة مقصرة، مطالبين باتخاذ إجراءات موازية تشمل تخفيض أسعار الكاز والسولار لتوفير بدائل تدفئة أكثر أمانا، إلى جانب تكثيف حملات التوعية وتحذير المواطنين من الاستخدام الخاطئ لوسائل التدفئة.
وقف البيع والتحويل للنيابة العامة
بدوره، قال وزير الصناعة والتجارة والتموين يعرب القضاة إن الجهات المختصة أرسلت عينات من وسائل التدفئة المتسببة بحالات الوفاة إلى الجمعية العلمية الملكية، بانتظار نتائج الفحوص الفنية النهائية لتحديد أسباب الاختناق.
وأشار القضاة إلى أنه تم إصدار تعليمات للتجار بوقف بيع هذه المدافئ فورا، وتحت طائلة المسؤولية القانونية، إضافة إلى إيقاف تداول نحو 5 آلاف مدفأة، مؤكدا في الوقت ذاته أن فرق التفتيش فحصت عينات عشوائية كبيرة من المصانع والأسواق.
وشدد على أن الحكومة لن تتهاون مع أي تقصير، داعيا المواطنين إلى الامتناع التام عن استخدام هذه المدافئ لحين صدور قرار نهائي، ومعلنا أن الملف سيحال إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.
أرقام رقابية وتلف عينات
من جانبها، كشفت مديرة مؤسسة المواصفات والمقاييس عبير الزهير أن كوادر المؤسسة نفذت 95 جولة تفتيشية على الأسواق و38 جولة على المصانع منذ بداية الموسم الشتوي الحالي.
وأوضحت أنه جرى خلال هذه الجولات سحب 34 عينة من وسائل التدفئة وإرسالها إلى الجمعية العلمية الملكية للفحص، إضافة إلى إتلاف 73 عينة مخالفة للمواصفات، وسحب 21 عينة أخرى من السوق يشتبه بعدم مطابقتها للمعايير الفنية المعتمدة.
الملف مفتوح، والأسئلة أكبر من الإجابات حتى لحظة كتابة هذه السطور، لكن ما هو مؤكد أن "الشموسة" لم تعد مجرد مدفأة، بل تحولت إلى رمز لخلل خطير في منظومة السلامة، أعاد فتح نقاش واسع حول الرقابة، والمسؤولية، وحدود التسويق، وثقافة الاستهلاك الآمن، في بلد يبحث مواطنوه عن الدفء بأقل كلفة، جاءت الفاتورة هذه المرة أرواحا بشرية.
