السودان
صدمات نفسية بعد حرب السودان تهدد التعافي.. ومطالبات بخطة وطنية
ما بعد الحرب في السودان: صدمات نفسية عميقة تهدد التعافي.. وخبراء يطالبون بخطة وطنية
لم تقتصر تداعيات الحرب المدمرة التي عصفت بالسودان على الدمار المادي الهائل والنزوح الجماعي لملايين المواطنين، بل امتدت لتخلف جراحا نفسية غائرة في نفوس الناجين، تهدد بعرقلة أي جهود مستقبلية لإعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار.
فمن صدمات الأطفال الذين فقدوا الأمان، إلى معاناة الأمهات اللواتي شهدن الفقد والاغتصاب، وصولا إلى الشباب الذين تحطمت أحلامهم، يعيش السودانيون اليوم صراعا داخليا مع الخوف والقلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة، مما يجعل الاهتمام بالصحة النفسية ضرورة وطنية ملحة وليست ترفا.
النزوح واللجوء.. صدمة مستمرة وآثار متفاوتة
تؤكد الأخصائية النفسية نجلاء هاشم محمد، المعالجة بمستشفى الأمل بالرياض، في حديثها لـ (سونا)، أن الحرب والنزوح القسري يعدان سببا مباشرا وقويا لظهور اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والذي يترك آثارا نفسية متفاوتة وعميقة حسب الفئات العمرية.
الأطفال: هم الفئة الأكثر تضررا، حيث يعانون من صدمات نفسية وعاطفية تؤثر بشكل مباشر على نموهم وتطورهم.
وتظهر عليهم أعراض مثل صعوبة التكيف مع البيئات الجديدة، تفكك العلاقات الاجتماعية، القلق المستمر، اضطرابات النوم والكوابيس، تراجع الأداء الأكاديمي، والميل أحيانا إلى السلوك العنيف أو الانطواء الشديد.
كبار السن: يواجهون ضغوطا إضافية تتمثل في التفكك الأسري، فقدان مصادر الدخل والهوية المجتمعية التي بنوها على مدار سنوات.
وهذا يخلق لديهم شعورا بالعزلة والوحدة، وسرعة الانفعال، وصعوبة الاندماج في البيئات الجديدة، مع ظهور اضطرابات سلوكية تنبع من الإحباط والغضب الداخلي المكبوت.
الشباب: يختلف التأثير عليهم باختلاف مرونتهم النفسية، لكنهم يظلون عرضة للقلق الوجودي، والاكتئاب، واضطرابات السلوك، والتوتر الدائم، خاصة مع فقدان فرص التعليم والعمل وتبدد أحلام المستقبل.
أطفال الحرب.. كيف نتعامل مع الصدمة؟
تصف الناشطة الاجتماعية هناء موسى الوضع قائلة: "الحرب في السودان مأساة حقيقية ونزيف مستمر يهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي.
الأطفال فقدوا إحساسهم بالأمان ويواجهون الخوف والعنف يوميا". وتوضح الأخصائية النفسية نجلاء هاشم أن التعامل مع الأطفال المتأثرين بالصدمات يتطلب رعاية خاصة ومتكاملة تشمل:
إشراف متخصص: ضرورة تدخل مختصين نفسيين واجتماعيين لتشخيص الحالة ووضع خطة علاج فردية.
الحوار اليومي: تخصيص وقت قصير (5-10 دقائق) يوميا للسماح للطفل بالتعبير عن مشاعره بحرية وأمان.
العلاج بالفن: استخدام الرسم والأنشطة الفنية كوسيلة آمنة للتعبير عن الصدمة، خاصة للأطفال غير القادرين على التحدث.
بيئة أسرية داعمة: الحفاظ على الهدوء داخل الأسرة، والابتعاد عن الصراخ أو المقارنة أو العقاب الجسدي.
احتواء نوبات الغضب: منح الطفل مساحة آمنة عند مروره بنوبات غضب أو قلق، مع إشراك الأسرة الممتدة (الأجداد، الأعمام، إلخ) في تقديم الدعم العاطفي اللازم.
أصوات من الميدان: بين أمل العودة وقلق الواقع
تعكس شهادات العائدين إلى مناطقهم الأصلية حجم التحديات النفسية والمادية.
تقول آمنة أحمد الأمين، العائدة إلى الخرطوم: "رغم فقدان منازلنا ومزارعنا، إلا أن وجود الأقارب والجيران أعاد إلينا شيئا من الأمان وخفف عنا الضغوط النفسية، وإن ظل القلق يرافقنا يوميا".
أما حسن عبد الله من شمال كردفان فيقول: "العودة إلى الديار رغم الدمار أفضل من البقاء في مناطق اللجوء، لكن غياب الخدمات الأساسية يزيد من الضغوط النفسية ويجعل الاستقرار صعبا".
الطريق نحو التعافي: دور الدولة والمجتمع
يشدد الخبراء على أن تهيئة بيئة نفسية واجتماعية سليمة للعودة تتطلب جهدا متكاملا من الدولة والمجتمع المدني، يشمل:
تعزيز الأمن والاستقرار: كأولوية قصوى في مناطق العودة.
إعادة بناء البنية التحتية: خاصة المدارس والمستشفيات ومصادر المياه.
برامج الدعم النفسي والاجتماعي: توفير خدمات متخصصة ومتاحة للجميع (أطفال وبالغين).
توفير فرص العمل: لمساعدة الأسر العائدة على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمعيشي.
وبحسب الخبراء تؤكد الآثار النفسية العميقة للحرب أن التعافي في السودان ليس مجرد عملية إعادة بناء مادي، بل هو رحلة طويلة ومعقدة لإعادة بناء الإنسان وترميم النسيج الاجتماعي.
إن دعم الصحة النفسية، وإعادة بناء الثقة المفقودة، ونشر ثقافة طلب المساعدة النفسية دون وصمة عار، تمثل ركائز أساسية لأي سلام حقيقي ودائم يعيد للسودان عافيته وإنسانيته.
