عقود الفيوتشرز والسبوت في باينانس تحت المجهر الفقهي
عقود الفيوتشرز والسبوت في باينانس تحت المجهر الفقهي
أصبحت منصة باينانس إحدى أكبر بوابات الدخول إلى عالم الأصول الرقمية، ليس فقط لمتداولي التجزئة التقليديين، بل كذلك لشريحة متنامية من المستثمرين المسلمين الذين يبحثون عن أدوات متوافقة مع أحكام الشريعة. في يوليو 2025 كشفت المنصة عن منتج «شريعة Earn» المخصص للاستثمار الحلال عبر التكديس (Staking) وتخزين العملات الرقمية بالتوافق مع الشريعة الإسلامية من Binance، بعد حصوله على شهادة اعتماد شرعي من Amanie Advisors. وفي هذا السياق صرح الرئيس التنفيذي ريتشارد تنغ:
وقال ريتشارد تنغ، الرئيس التنفيذي لشركة بينانس: "تلتزم بينانس بتوفير بيئة تداول شاملة تتميز بالشفافية. ونعمل من خلال هذا المنتج على تمكين المجتمع الإسلامي والمستثمرين الملتزمين بالشريعة الإسلامية من المشاركة في الثورة المالية الحالية في عصرنا. ولا يعتبر "شريعة Earn" مجرد منتج مالي فحسب، بل يمثل خطوة..."
هذا الإعلان أعاد فتح النقاش الفقهي حول صور التداول الأكثر شيوعا على المنصة، ولا سيما التداول الفوري (السبوت) وعقود الفيوتشرز ذات الرافعة المالية. فما الضوابط الشرعية لكل نوع؟ وأيهما أقرب إلى الجواز؟
أولا: تمييز المفاهيم – ما الفرق بين السبوت والفيوتشرز؟
التداول الفوري (Spot Trading): عملية شراء الأصل الرقمي أو بيعه مباشرة، مع تسوية فورية أو شبه فورية على الشبكة، بحيث تنتقل ملكية العملات إلى المشتري في الحال (قبض حكمي).
عقود الفيوتشرز (Futures): عقود مشتقة تلتزم فيها بشراء أو بيع أصل ما في تاريخ مستقبلي وبسعر متفق عليه مسبقا، مع إمكان التسوية نقدا. غالبا تنفذ برافعة مالية (Margin) ويطلب من المتداول إيداع هامش ضمان.
ثانيا: الأطر الشرعية العامة
يعتمد تقويم جواز أو عدم جواز أي أداة استثمارية على مدى توافقها مع المبادئ الآتية:
حظر الربا (الفائدة): تجنب الفوائد الثابتة على القروض أو الحسابات المدينة.
منع الغرر الفاحش: استبعاد العقود التي تتضمن جهالة مفرطة أو عدم يقين عال.
منع الميسر (القمار): الحيلولة دون المعاملات التي يشوبها رهان محض أو مقامرة.
تحقق القبض الحقيقي أو الحكمي: انتقال ملكية السلعة أو النقد فور التعاقد أو وفق ضوابطه.
الاستبعاد من القطاعات المحرمة: كالمشاريع التي تتعامل في الخمور أو المقامرة.
ثالثا: الحكم الشرعي للتداول الفوري على باينانس
معظم الهيئات الشرعية المعاصرة تجيز شراء العملات الرقمية وبيعها فوريا بشروط:
تحقق القبض الحكمي: بمجرد تسجيل الصفقة على البلوكتشين تصبح العملة تحت سيطرة المشتري (مفاتيح خاصة أو حساب أمين). يعتبر هذا قبضا شرعيا كافيا قياسا على قبض التحويل البنكي السريع.
تمويل الصفقة من أموال مملوكة: لا اقتراض ربوي لتمويل الشراء.
عدم التعامل في عملات محرمة الأصل (كالمشروعات المرتبطة بالمقامرة أو الفائدة الصريحة).
دفع رسوم التداول الثابتة لا المتغيرة ربوية: رسوم المنصة تعامل كأجر سمسرة جائز.
انطلاقا من هذه الضوابط، يغلب رأي جواز التداول الفوري إذا التزم المتداول بالحذر، خصوصا أن المنصة أتاحت حسابات «صفر فائدة» وواجهات تداول خالية من أي تمويل يومي (Funding) للسبوت.
رابعا: عقود الفيوتشرز – محل النظر الفقهي
رغم شعبيتها، تثير الفيوتشرز إشكالات شرعية أهمها:
التسوية النقدية بدل التسليم الحقيقي: كثير من العقود تغلق بنقد الفرق السعري فقط، ما يعني بيع ما لا يملك (بيع الكالئ بالكالئ).
استخدام الرافعة مع رسوم تمويل دورية (Funding Rate): في عقود Perpetual تفرض رسوم بين البائع والمشتري بحسب اتجاه السوق كل 8 ساعات تقريبا؛ يرى بعض العلماء أنها شبيهة بالفائدة المركبة لأنها غير مرتبطة بأجر خدمة حقيقية.
التصفية القسرية (Liquidation): إذا انخفض الهامش توقف المنصة الصفقة آليا، ما يشابه عقدا فيه غرر كبير وانكشاف غير مقبول.
عدم تحقق القبض: لأن الأصل محل العقد لا يسلم فعلا عند فتح المركز؛ بل هو مجرد التزام.
لهذه الأسباب صدرت فتاوى متعددة بتحريم الصورة السائدة لعقود الفيوتشرز في منصات الكريبتو، ما لم يعدل هيكلها ليصبح شبيها بعقد سلم أو مرابحة بضوابطه. وتوصي المجامع الفقهية بالابتعاد عنها للمستثمر العادي.
خامسا: هل تقدم باينانس حلولا شرعية؟
أطلقت المنصة برامج مثل “شريعة Earn” وفق ما أعلنه الرئيس التنفيذي ريتشارد تنغ، بغية إضفاء أطر شرعية على منتجات الادخار والتربح، كتخزين العملات في محافظ مخصصة لدعم مشاريع متوافقة مع الضوابط. غير أن برنامج Earn مختلف جوهريا عن عقود الفيوتشرز؛ فهو أقرب إلى عقود المضاربة أو الوكالة الاستثمارية بشرط أن تخلو من ضمان رأس المال مع تحقيق الشفافية في الأرباح والخسائر.
في المقابل، سوق الفيوتشرز ما زال يعتمد الرافعة والإقراض ورسوم التمويل، ولم تعلن باينانس حتى تاريخه عن نسخة “Futures Halal” مستوفية للشروط الشرعية. وعليه يبقى الحكم الأصلي بالتحريم قائما، ما لم تتغير بنية المنتج جذريا بإلغاء الهامش الربوي وفرض التقابض الكامل للأصل.
سادسا: مقارنة فقهية مركزة
التداول الفوري: الأصل فيه الإباحة بشرط التقابض الفوري ووضوح الشروط وانتفاء الربا. يستخدم لشراء عملات والاستثمار طويل الأجل أو القصير.
عقود الفيوتشرز: الأصل فيها المنع لما تتضمنه من ربا وغرر وميسر. تستثنى فقط حالات معدودة بعد تعديل آليات العقد لتصبح أقرب إلى السلم مع تقابض حقيقي.
برامج الادخار (Earn): الحكم يتوقف على نوع العقد؛ إن كان مضاربة أو وكالة خالية من الربا والضمان المحرم، جاز بشروط الإفصاح وتحمل الخسارة، وإلا فيمنع.
سابعا: نصائح عملية للمتداول المسلم
اضبط إعدادات حسابك على باينانس لتعطيل Margin وFutures إن أردت الالتزام بالسبوت المباح.
اقرأ الشروط والأحكام التفصيلية لأي منتج جديد؛ فالعبرة بحقيقة العقد لا بتسميته التجارية.
استشر هيئات شرعية مستقلة؛ إذ تختلف التفاصيل الدقيقة باختلاف تحديثات المنصة.
طبق إدارة رأس مال تحفظية؛ فحتى التعاملات المباحة شرعا تحمل مخاطر مالية جسيمة.
اجتنب الشبهات: قال النبي ﷺ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». إن لم تتأكد من خلو المنتج من الربا أو الغرر، فالاحتياط أولى.
ثامنا: دور الهيئات الرقابية ومستقبل الامتثال الشرعي
يتزايد ضغط المستثمرين المسلمين على المنصات العالمية لاعتماد هياكل متوافقة مع الشريعة. وقد بدأت كيانات في ماليزيا والإمارات والبحرين بإصدار تراخيص Digital Asset Exchange Sharia-Compliant تمهد لظهور بدائل نقية أو أقرب إلى الضوابط. نجاح هذه النماذج قد يدفع باينانس لطرح منتجات مشتقات تخلو من التمويل الربوي، وتستخدم تأمينا تعاونيا بدلا من نظام التسييل القسري.
خاتمة
يتعامل المسلم اليوم مع اقتصاد رقمي بالغ التعقيد، يستدعي يقظة فقهية وعملية في آن واحد. التداول الفوري على باينانس – متى تحقق التقابض وانتفى الربا والغرر – يظل الخيار الأكثر أمانا من الناحية الشرعية. أما عقود الفيوتشرز بصورتها الحالية فتقع غالبا في دائرة المحرم بسبب مزجها للرافعة الربوية، ورسوم التمويل شبه الثابتة، وتضخيمها للميسر والغرر. وحتى تقدم نسخة معدلة تراعي ضوابط الشريعة، يبقى الابتعاد عنها أحوط.
ومع سعي باينانس لتوسيع منتجاتها وفق مبادرة “شريعة Earn”، فإن الأمل قائم بأن نرى ابتكارات حلالا خالصة تتيح للمستثمر المسلم المشاركة الفعالة في الاقتصاد الرقمي، بلا تنازل عن ثوابت الدين. إلى أن يتحقق ذلك، يبقى على كل متداول أن يعرض معاملاته على ميزان العلم الشرعي؛ فما ثبت حله اتبعه، وما غلب على الظن تحريمه اجتنبه، وما اشتبه أمره فليأخذ بوصية النبي ﷺ في ترك الشبهات، ليحفظ دينه وماله معا.
