صواريخ إيران
هل فقدت "إسرائيل" زمام المبادرة في المواجهة مع إيران؟
د. محمد الزغول
بعد مضي أسبوع على اشتعال المواجهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران، يبدو لي أن مسار الحرب لا يمضي بالطريقة التي أرادها الطرف المبادر إلى إشعالها، وأن إسرائيل تفقد زمام المبادرة، وتفقد معها السيطرة على مسار العمليات العسكرية، وقدرة التحكم بمآلاتها، ومخرجاتها المتصورة، والموضوعة مسبقا، بل إن إسرائيل قد تواجه مشكلة أيضا في بناء استراتيجية فاعلة للخروج من هذه الحرب من دون مساعدة خارجية.
وقد يبدو هذا التقدير متسرعا، ومخالفا للتقديرات الشائعة بشأن التفوق الحتمي، واليد العليا الإسرائيلية في المنطقة. وقد يذهب البعض إلى القول بأنه تقدير رغائبي، خاصة وأن ندرة من سكان الشرق الأوسط يرغبون في أن يشاهدوا إسرائيل تخرج منتصرة من هذه الحرب. لكن بعيدا عن الأحكام المسبقة، دعونا نستعرض أهم المعطيات الميدانية، والمؤشرات التي يستند إلى هذا التحليل:
لم تخف إسرائيل أهدافها منذ بداية الهجوم. إذ تحدثت صراحة عن تدمير كامل للبرنامجين؛ النووي والصاروخي في إيران. كما أصدرت تصريحات مختلفة شكلا، لكنها متقاربة في المضمون، حول نيتها إطاحة النظام الإيراني، سواء جاءت تلك الإطاحة نتيجة نهائية لهذه الحرب، أم كانت هدفا عملياتيا لها.
ويشير مجمل مسار العمليات العسكرية، وكذلك مواقف المسؤولين الإسرائيليين إلى أن إسرائيل في تحقيقها لهذه الأهداف استندت إلى تقديرات استراتيجية مسبقة، وفرتها الأجهزة الاستخباراتية، وإدارات التخطيط العسكري. ولعل أول هذه التقديرات المسبقة، هو أن نجاح الضربة الأولى، المتمثل في ضرب القدرات الصاروخية لسلاحي؛ الدفاع الجوي وسلاح الصواريخ الباليستية، وضرب المواقع النووية، وتحييد الصف الأول من القيادات الميدانية؛ العسكرية والأمنية، وما سيرافق ذلك من انهيارات معنوية في الداخل الإيراني، سيؤدي بالنتيجة إلى انهيار داخلي في النظام السياسي. وفي ظل الوعي الإيراني المسبق بتجربة الحرب على "حزب الله" اللبناني، فقد يستكمل هذا الانهيار بانتفاضة شعبية ضد النظام، وانتشار حالة من الفوضى في الداخل الإيراني.
واتخذت إسرائيل تدابير دقيقة لتعميق حالة الفوضى في إيران، سواء عبر تحضير، وتدريب مجموعات من المتعاونين، والجواسيس في الداخل، وتزويدهم بالمسيرات، ومختلف الأدوات التقنية اللازمة، أم عبر التنسيق مع أطراف بعينها في صفوف المعارضة الإيرانية التي تمتلك حضورا ميدانيا مضمونا في الداخل الإيراني. وبالفعل بدا في اليوم الأول للمواجهة، أن هذا هو مسار الأحداث. لكن هذا التقدير لم يكن في محله؛ إذ أظهرت إيران قدرة على استيعاب الضرر، وتدارك الموقف، ونجحت في تجاوز الصدمة الأولى، وأطلقت سريعا حملات أمنية تمكنت من كشف، وتفكيك العديد من الشبكات المتعاونة، بالتزامن مع تعويض سريع للقيادات التي تمت تصفيتها، وتحرك مواز لإعادة توزيع القدرات العسكرية، بما يتناسب مع وضعية التفوق الجوي للخصم. وساعد إيران في ذلك كله، أن العقيدة العسكرية للجيش والحرس الثوري، تستند إلى استراتيجية "الحرب غير المتكافئة" التي تفترض قبل كل شيء، وجود تفوق تقني للعدو، وهي تتدرب منذ عقود على كيفية العمل تحت هيمنته الجوية على سماء البلاد، وحقيقة تفوقه الاستخباراتي، والتكنولوجي. وبعد أيام معدودة ظهرت إيران في هذه المواجهة أكثر اتزانا، وقدرة على تنظيم ردود الفعل الانفعالية التي سادت في اليوم الأول.
وكان التقدير الثاني الذي استندت إليه العملية العسكرية الإسرائيلية، يؤكد أن بدء القصف الإيراني على المدن الإسرائيلية، سيقنع فورا الإدارة الأمريكية بالدخول إلى المعركة، وأن الانهيارات السريعة في قدرات إيران العسكرية، ستطمع إدارة الرئيس ترمب في حصد ثمار المواجهة، وربما تنجح في إقناعه أيضا بتبني خيار العمل على تغيير النظام السياسي في إيران، باعتبار أن لديه فرصة ذهبية متاحة لاستئصال العقدة الإيرانية من جذورها.
لكن الولايات المتحدة لا تزال (بعد أسبوع من المواجهة المباشرة) مترددة بين الانخراط في الحرب، أو استخدام هذا الخيار كورقة للضغط على طهران ضمن مسار المفاوضات. إذ لا تزال الإدارة الأمريكية متخوفة من احتمال الفشل في القضاء على المشروع النووي الإيراني عبر ضربة جوية، والذي سيعني ضمنا القضاء على مسار المفاوضات من دون بديل عملي. ناهيك عن المخاوف الأمريكية من أن يؤدي الهجوم إلى توسيع رقعة المواجهة، وتعرض القواعد، والأصول العسكرية الأمريكية في المنطقة إلى هجمات انتقامية. ولدى الولايات المتحدة أيضا حسابات معقدة على الصعيد الاقتصادي الذي يعتبر عاملا موجها وأساسيا لقرارات الرئيس ترمب، منها: التداعيات على أسواق الطاقة، وحركة التجارة العالمية. وتزايد هذا التردد الأمريكي بعد إخفاق إسرائيل في تحييد البرنامج النووي الإيراني، بالرغم من الضربات المركزة التي نفذتها طوال الأيام الماضية. وتتحدث تقارير أمريكية حديثة عن مخاوف من عدم تمكن أمريكا أيضا من تحييد مواقع نووية إيرانية حساسة، ومحصنة مثل "منشأة فردو" بالضربات الجوية. ولا شك أن أي قرار بتنفيذ عمليات إنزال أو "كوماندوز" في إيران سيكون أثقل على كاهل الرئيس ترمب من قرار المشاركة في الضربات الجوية لمخاطرة الكبيرة.
وحتى الآن، يرجح صانع القرار الأمريكي التريث، وانتظار نتيجة اتصالات اللحظة الأخيرة مع الجانب الإيراني. وكان لافتا الحديث عن مهلة أسبوعين قبل اتخاذ القرار. وهي بالتأكيد فترة طويلة للغاية في تل أبيب التي تعاني يوميا من الهجمات الصاروخية الإيرانية النوعية، والتي بدأت تصبح أكثر فاعلية ودقة مع تقدم المواجهة. ولعل أبرز المخاوف الإسرائيلية وضوحا هو أن تستخدم إدارة ترمب التلويح بالحسم العسكري لصالح إسرائيل، باعتباره ورقة فعالة للضغط على الموقف الإيراني، دون أن تذهب نحو استخدامها فعليا.
وكشفت مصادر إعلامية محايدة أن إسرائيل بالغت في تقاريرها حول تحييد منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية؛ إذ أظهرت الصور، أن إسرائيل تلاعبت بالمعلومات، واستخدمت صورة واحدة من زوايا مختلفة، لتوهم أنها ضربت ثلاث منصات إطلاق. وكانت مصادر إسرائيلية ذكرت بأنها نجحت في تحييد أكثر من نصف منصات إطلاق الصواريخ التي تمتلكها إيران. لكن إيران تواصل إثبات قدرتها على إطلاق صواريخ نوعية. وعلى الرغم من أنها تطلق عددا أقل من الصواريخ، لكنها تحقق نسبة أكبر من النجاح في ضرب الأهداف، وتحدث خسائر أكبر، خاصة في المنشآت الاقتصادية. ولا شك أن إسرائيل استعدت جيدا لتحمل الكلفة الاقتصادية للهجوم، لكن إطالة أمد المواجهة يبقى أحد أكبر الهواجس الإسرائيلية على المستويين الاقتصادي، والعسكري.
وقد بدأت معالم الوعي بأن إسرائيل لم تعد في موقف المهيمن بالظهور في مواقف القيادات الإيرانية. ولعل النموذج الأبرز في ذلك، هو موقف وزير الخارجية عباس عراقجي الذي أكد اليوم أن بلاده ترفض الحوار مع أمريكا. وحول التصريحات الأمريكية التي تشير إلى اتصالات إيرانية مع البيت الأبيض أوضح عراقجي: (نحن في حالة دفاع مشروع عن النفس، ولن يتوقف هذا الدفاع بأي شكل من الأشكال. ولا نتفاوض مع أمريكا كشريك في هذه الجرائم. لم نتواصل مع الأمريكيين، ولن نتواصل معهم في ظل الوضع الراهن). لكن عراقجي أقر بأن التفاوض يجري مع الأوروبيين بشأن الملف النووي، والوضع الإقليمي: (موضوع محادثات جنيف يقتصر على المجالين النووي والإقليمي، وليس لدينا أي نقاشات أو مفاوضات مع أي جهة بشأن ملف الصواريخ).
ونفى محسن رضائي، القائد السابق للحرس الإيراني، وعضو مجمع تشخيص مصلحة النظام أن تكون إيران بصدد مناقشة هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار، موضحا: "انتقامنا من إسـرائيل مقدس. ولن نقبل بهدنة تمنح العـدو فرصة جديدة. يجب أن يضمن الرد الصاروخي الإيـراني على إسرائيل مستقبل البلاد، وألا يجرؤ العدو بعدها على تكرار هجومه". أما خطيب الجمعة في طهران علي أکبري، فقد أكد ألا أحد سيجرؤ على التفاوض مع الأمريكيين.
وربما هذا الوعي نفسه هو ما دفع المعارضة الإيرانية مسیح علي نجاد إلى القول بأن "إسرائيل أفشلت خطتنا، كان على نتنیاهو الصبر حتى تبدأ الاحتجاجات الشاملة في إيران، ثم يبدأ هجومه بالتنسيق مع قوى المعارضة".
ولعل الأهم من التصريحات والمواقف، هو التداعيات التي يمكن أن يتركها هذا الواقع الجديد على تصرفات الجانبين؛ فعلى الصعيد الإسرائيلي، قد يدفع الواقع الجديد الإسرائيليين نحو ضرب التكتلات المدنية، وإيقاع خسائر بشرية، واقتصادية فادحة في الجانب الإيراني، للضغط على إيران قياسا على التجارب السابقة في غزة ولبنان. أما على الجانب الإيراني فإنه ينذر بمزيد من التشدد في المفاوضات؛ ما يعيق تطبيق الحلول السلمية.
وختاما، لا يمكن تجاهل الحقيقة الماثلة بأن الولايات المتحدة، لا يمكنها السماح لإيران بالخروج من هذه المواجهة منتصرة. لكن ذلك لا ينفي أن يرغب بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية في إعطاء إسرائيل درسا واضحا بأن عليها ألا تتصرف من دون التنسيق الكامل مع واشنطن، وألا تشاكس أولا، ثم تعول على الدعم الأمريكي. وربما رحبت الولايات المتحدة بالهجوم الإسرائيلي بداية لكونه مفيدا في الضغط على إيران في هذه المرحلة. لكن غايتها المنشودة هي التوصل إلى حل سلمي مع إيران.
