الشاعر الراحل زياد العناني
زياد العناني.. شاعر تنبأت أشعاره بمستقبله واختار النطق بالكلمات
- في ثمانينيات القرن الماضي نسج العناني أولى أشعاره محتضنا بها ذاته
غيب الموت مهندس الكلمات الشاعر زياد العناني، من أتقن حفر السخرية على مدار عقود في أبياته ودواوينه دون أن يشير مباشرة إلى موضع الألم، تحدث ذات لقاء: "لقد كنت متلهفا جدا للفضاء وأحتفي بنزعة التجريب، ولم أخف من فكرة الرواسب العالقة بين الأجناس الأدبية، وكنت أفرح بالقدرات التجريدية المتوزعة في ثنايا النص وأسخر من الشتائم التي لم تفهم أو تتفهم كونية الإيقاع".
في العام 1962 شهدت بلدة ناعور في العاصمة عمان ولادة الابن البكر زياد، قبل أن ترزق عائلته بـ 3 أبناء و 6 بنات.
وتلقى العناني تعليمه حتى الثانوية في مدرسة طلحة بناعور، ثم انتقل للعمل كموظف حكومي قرابة عشرين عاما، تلاها العمل في الصحافة الثقافية مع جريدة "الرأي" وختمها في يومية "الغد".
في ثمانينيات القرن الماضي نسج العناني أولى أشعاره محتضنا بها ذاته، لكنه لم يتوقع حينها أن النسيج تحول إلى لقب شاعر يلازم اسمه، يقول ذات لقاء: "لقد كنت شغوفا بصمت الكتابة وهدوئها ورحت أكتب لذاتي وذاتها، ولم يدر بخلدي أنني سأصبح شاعرا. كل ما في الأمر هو أن أحقق فرحي الخاص".
في رصيد الشاعر العناني ست مجموعات شعرية صدرت بين الأعوام 2000 و2009؛ هي: "خزانة الأسف" (2000)، و"مرضى بطول البال" (2002) التي ضمت قصائد نشرها في مجلات وصحف عربية بين 1990 و1999، و"كمائن طويلة الأجل" (2002)، و"تسمية الدموع" (2004)، و"شمس قليلة" (2006)، و"زهو الفاعل" (2009)، تصدرها مجموعة أولى فضل أن يسقطها من مشروعه الشعري؛ هي "إرهاصات من ناعور" صدرت عام (1988).
من مجموعاته السبع تلك حظرت وزارة الثقافة الأردنية مجموعتان منها: "خزانة الأسف" و"زهو الفاعل". تنبأت أشعار العناني بمستقبله، يقول في "خزانة الأسف": "أمي/ دوخها السكر/ بتروا قدميها/ أمي.. أمي.. أمي../ ماذا عني؟ / كيف سأبحث عن جنة ما قالوا/ تحت الأقدام". ثم يضيف: "هنالك جزء مني لا يزال على الحدود".
تزوج زياد من ابنة صديق والده وكان ثمار ذلك الزواج 4 أبناء 2 من الذكور وأنثيين.
عقب زواجه الأول داهم قلبه الحب على غفلة، لتكون إحدى قريباته (محبوبته) زوجته الثانية، فأنجب منها 4 أولاد وبنتين.
وفي العام 2011 هاتف زميل صحافي من سوريا العناني يحدثه عن الأحداث والتطورات هناك، وخلال الاتصال فقد العناني وعيه ليتبين عقب نقله إلى المستشفى إصابته بـ"جلطة دماغية" أدخلته في غيبوبة لمدة 3 أشهر، فقد على إثرها النطق والحركة.
قبل إصابته بالوعكة الصحية كان العناني يجهز مجموعة شعرية له، خرجت للنور بعد إقناع أصدقائه حين تماثل للشفاء، ليختار أخيرا بعد سنوات الإشارة بالكلمات عندما خانت الحنجرة واللسان.
في العام 2015 زادت معاناة العناني حين تسبب خطأ طبي ببتر ساقه وكان مصابا بمرض "السكري" آنذاك، فعن طريق الصدفة اكتشف أحد الأطباء إصابتها بـ"الغرغرينا" قررت له على الفور عملية البتر، وسط تعجب من الأطباء عن صمته عن آلامها القاتلة، وفي أبياته مانطق عن أوجاع أكبر، يقول في مجموعته "تسمية الدموع" المنشورة في عام 2004: "كأنني مجموعة من شيوخ/ أمضوا حياة غابرة في غاية الألم/ ثم استراحوا فوق مصطبة الوداع بأعضاء/ ترتجف كما يرتجف الديك/ المذبوح".
في العام 2017 ضم الشاعر محمد عريقات قصائد نشرها العناني في جريدة "الغد" وصحف ومواقع إلكترونية مختلفة بمجموعة شعرية سميت "جهة لا بأس بعريها"، لتكون أخر جهاته ومجموعاته الشعرية.
وتعلق العناني بوالدته منذ الصغر، وحين ألزمه المرض الفراش تثاقلت خطوات الأم، فباتت نافذتيهما ملتقى المحبين ومنبع الحنان، يذكرها في إحدى أبياته: "ما من مرة/ لم أجدها/ جالسة في كتلة السواد/ وتنتظر/ إنها أمي التي دربتها المقابر على ذرف الدموع/ وحين تورطت في الضحك/ تمزق وجهها"، إلا أن الموت خطف وجهها عنه وألبسه السواد في عام 2022.
واختار العناني البقاء في فراشه خلال سنواته الماضية مع إلتقائه بمحبيه وأصدقائه في منزله، باستثناء تكريم له حضره على مقعده، خلال احتفالية تكريمية قدمتها إدارة مهرجان جرش في العام 2022 تليق بمسيرته وهيبة حضوره.
في ليلته الأخيرة أي منتصف ليل الجمعة، طلب الشاعر زياد العناني من زوجته أن تجلب له حلوى "المعمول" صباحا وعقب دقائق لفظ أنفاسه "بشردقة" أعلنت رحيله عن عمر يناهز 62 عام. بمجموعته الشعرية "زهو فاعل" قال: "ماذا أحكي عن بلاد ضيعتها/ مثل قرش الطفولة/ ضاع الحلم/وضاعت قطعة الحلوى"، وكأن هذه الأبيات أوشت بنبوءة أخرى، فكان قدره أن يبقى الحلم معلقا ويحرمه الموت من قطعة الحلوى.
