رؤيا- رعد بن طريف- أنهت ثمانون شخصية مسيحية تمثل مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري والديني في ست دول عربية "مصر، العراق، لبنان، فلسطين، سوريا، والأردن" أعمال المؤتمر الثاني "المسيحيون وربيع العرب" والذي عقد على مدار يومين متتاليين في 22-23 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014.
وقد توافق المجتمعون على البيان الختامي الذي حمل اسم "إعلان عمان ...خريطة طريق لمستقبل أفضل لمسيحي البلدان العربية".
وخلال الفترة الممتدة من أيلول / سبتمبر 2013 وتشرين الثاني نوفمبر 2014، التقت مئات الشخصيات الوطنية المسيحية، من رجال دين وقادة سياسيين وأعضاء مجالس نيابية ونشطاء حقوقيين، من كل من مصر والعراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين، في سلسلة من المؤتمرات الإقليمية والوطنية، ناقشت خلالها جملة التحديات التي تجابه مسحيي المشرق والبلدان العربية، في هذه المرحلة الدقيقة التي تشهد استهدافاً منهجياً منظماً لهذا المكون الرئيس من مكونات شعوب هذه المنطقة، والذي لطالما لعب دوراً تأسيسياً وريادياً في صنع حضارتها وثقافتها ومنجزها الفكري والاقتصادي والاجتماعي.
وإذ لاحظ المشاركون والمشاركات في هذه اللقاءات، تفاوتاً ملحوظاً في مكانة المسيحيين ومنظومة حقوقهم وحرياتهم بين دولة عربية وأخرى باختلاف نظمها السياسية وتباين السياقات التاريخية الخاصة بنشأتها وتطورها، فقد توقفوا مطولاً أمام ما يتعرض له المسيحيون بشكل خاص، في كل من سوريا والعراق، حيث تصاعدت بشكل غير مسبوق في تاريخ المنطقة، عمليات القتل الجماعي والتهجير القسري واستهداف الكنائس ورجال الدين، وكل ما يمكن أن يندرج في إطار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تعاقب عليها كافة الشرائع السماوية والوضعية، بما تمثله من تعدٍ صارخ على الحقوق الأساسية للإنسان في حفظ حياته وممتلكاته وصون حقوقه وحرياتها الأساسية.
وتوقف المشاركون والمشاركات عند ظاهرة الهجرة والتهجير التي تفشت في أوساط مسيحيي هذه البلدان خلال السنوات العشر الأخيرة، وبشكل مركز وكثيف، منذ تصاعد حركة الاحتجاجات والثورات التي اجتاحت المنطقة في السنوات الأربع الأخيرة، في سياق ما بات يعرف باسم ثورات الربيع العربي، وعبروا عن عميق قلقهم من استمرار هذه الظاهرة، التي تنذر بفقدان المنطقة لواحد من أهم مكوناتها التاريخية، وحرمان شعوبها ومجتمعاتها، من تعدديتها المُثرية لتراثها وثقافتها وروحها، واعتبروا أن مسؤولية وقف هذه الظاهرة، والعمل لاستعادة المهاجرين والمهجرين من أبناء الطوائف المسيحية إلى أوطانهم الأصلية، هي مسؤولية كبرى تقع على عاتق حكومات هذه الدول في المقام الأول، فضلاً عن كونها مسؤولية المجتمعات العربية بكل مكوناتها السياسية والحزبية والمدنية والثقافية والأهلية، مشددين على وجوب "عدم التسليم بمقولة " بأن ما حصل قد حصل، وإن طريق الهجرة ذو اتجاه واحد فقط.
وفي معرض تحليلهم للتحديات التي أحاطت بحاضر مسيحيي المنطقة، من عرب وسريان وكلدانيين وآشوريين، أجمع المشاركون والمشاركات على ما يلي:
أولاً: إن فشل الدولة الوطنية العربية بناء "دولة المواطنة المتساوية" المدنية الديمقراطية التعددية، كان سبباً حاسماً في خلق مناخات من التمييز ضد شرائح أساسية من المواطنين والمكونات، ولقد عانى مسيحيو هذه البلدان، من أشكال شتى من هذا التمييز، على المستوى الدستوري والقانوني، أو على مستوى المشاركة والتمثيل السياسيين، أو لجهة تمتعهم بقدر أقل من الحقوق والحريات، وتحديداً في مجال الحريات الدينية.
ثانياً: وإذ أقر المشاركون بأن شعوب هذه المنطقة، بمختلف مكوناتها، قد عانت ما عانت، جراء تفشي حالة الركود في المنطقة، لأكثر من ثلاثة عقود، في ظل أنظمة اتسمت غالبيتها بالفساد والاستبداد، فقد أجمعوا على أن "لا حل مسيحياً لمشكلات المسيحيين"، وأن الحل إنما يتمثل في انخراط شعوبنا ومجتمعاتنا، بقواها الحيّة، في النضال السلمي من أجل نشر قيم الديمقراطية والتعددية واحترام ثقافة حقوق الإنسان، وبناء الدولة الحديثة، المدنية – الديمقراطية، دولة تقف على مسافة واحدة من جميع مواطنيها، رجالاً ونساء، بصرف النظر عن ألوانهم وأعراقهم ومذاهبهم وأديانهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية... دولة كافلة وضامنة لمنظومة الحقوق والحريات الفردية والجماعية لمختلف مواطنيها ومكوناتها.
ثالثاً: عبّر المشاركون والمشاركات عن رفضهم القاطع، لكل المحاولات التي تبذلها أوساط عديدة في دولنا ومجتمعاتنا، ولأسباب وأهداف مختلفة، لتصوير المسيحيين على أنهم عنصر سلبي في حركة التغيير والإصلاح التي تجتاح المنطقة، وتطالب بها شعوبها من أجل اللحاق بقطار العصر والحداثة، كما رفضوا محاولات تقديم المسيحيين كـ "ظهير خلفي" لأنظمة وحكومات وقوى مستبدة وفاسدة، فالمسيحيون من أبناء وبنات هذه المنطقة، كانوا على الدوام، دعاة نهضة وتنوير، ومناصرين أشداء للوحدة الوطنية في دولهم ومجتمعاتهم، ومساهمون أساسيون في بنيانها الحضاري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
رابعاً: لاحظ المشاركون والمشاركات، إن المجتمعات العربية، وتحديداً في العقود الثلاثة الأخيرة، قد باتت أقل تسامحاً حيال بعض مكوناتها، خصوصاً في ظل انتشار قراءات متطرفة وشاذة لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتفشي مظاهر الإقصاء والتكفير وعدم الاحترام للآخر والتطاول على حقوقه ومحاولة منعه من ممارسة هذه الحقوق، والمؤسف أن هذه الظاهرة نشأت وتفاقمت، تحت سمع وبصر معظم إن لم نقل جميع حكومات هذه الدول، وأحياناً بتشجيعٍ من بعضها، ومن دون أن يُتخذ ما يكفي من الإجراءات، لتكريس ثقافة التسامح والعيش المشترك والاعتراف بالآخر واحترام التعددية الدينية والفكرية والثقافية والسياسية، والتصدي لمدارس الغلو والتطرف في العقيدة والفكر والممارسة.
خامساً: توقف المشاركون أمام ظاهرة صعود حركات الإسلام السياسي في مختلف الدول والمجتمعات العربية، وإذ شددوا على ضرورة التمييز بين هذا الحركات، وعدم وضعها جميعاً في سلة واحدة، فقد أجمعوا على وجوب محاربة وعزل التيارات التكفيرية والإلغائية منها، ودعوة الحركات الأكثر اعتدالاً إلى تبني خطاب واضح حيال المكون المسيحي في المنطقة، والابتعاد عن اللغة الضبابية والمراوغة عن الحديث عن حقوقهم وحرياتهم ومشاركتهم وتمثيلهم، ذلك أن مثل هذه المقاربات، لم تعد مجدية، لا في تعزيز "مواطنة المسيحيين" ولا في محاربة تيارات الغلو والتطرف.
سادساً: عبّر المشاركون والمشاركات عن رفضهم الشديد، لكل المحاولات البائسة، التي تقوم بها جهات متطرفة وإقصائية، للنظر إليهم كـ "أقليات" ثانوية، أو "جاليات" وافدة، أو "أهل ذمة"، فهم ملح هذه الأرض، وهم من أهل حضارتها وثقافتها وتراثها، و"مواطنتهم الفاعلة والمتساوية" في دولهم ومجتمعاتهم، غير قابلة للمقايضة أو المساومة أو القسمة أو الانتقاص.
سابعاً: عبر المشاركون والمشاركات عن إدانتهم واستنكارهم لكل النظرات والمحاولات، التي تتعامل مع مسيحيي المنطقة، من عرب وسريان وكلدان وآشوريين، بوصفهم "امتداداً" أو "جيوباً" للدول الغربية، وبالأخص، حين يجري أخذ المسيحيين في بعض دول المنطقة، بجريرة المواقف والسياسات التي تصدر عن دول غربية، واستذكروا صفحات ناصعة من تاريخ هذه المنطقة، ونضالات شعوبها في سبيل الاستقلال والتحرر الوطني، حيث تصدر مفكرون وقادة مسيحيون كثر، حركات التحرر والاستقلال عن الاستعمار، وكانوا روّاداً في حركة النهضة والتنوير، وعاشوا حقباً تاريخية، من التآخي والعيش المشترك، مع مختلف مكونات شعوب هذه المنطقة.
ثامناً: ولدى مراجعة الدساتير والتشريعات السارية في عدد من الدول العربية، لاحظ المشاركون تبايناً في درجة اعترافها وكفالتها لحقوق المسيحيين وحرياتهم، أفراداً وكنائس وجماعات، وهي تراوح ما بين التنكر لهذه الحقوق، أو عدم الاتيان على ذكر هذا المكوّن وتسميته باسمه الصريح، أو الانتقاص من حقوقه وحرياته، وفي جميع الحالات، فقد تلمس المشاركون والمشاركات، الأهمية القصوى لتنقيح وتعديل هذه الدساتير والتشريعات، بما ينسجم مع الحاجة لـ "دسترة" و"قوننة" مفهوم "لمواطنة الفاعلة والمتساوية"، وبما يتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان والمعايير الدولية الخاصة بحقوق الأقليات الدينية.
تاسعاً: وإذا أكد المشاركون والمشاركات، أن المجتمعات المسيحية في المنطقة، شأنها شأن مختلف المكونات المجتمعية، تتميز بتعددية مذهبية وفكرية وسياسية واجتماعية، وإذ أكدوا رفضهم النظر إليها بوصفها "كرات مصمتة" عصية على التنوع والاختلاف، فقد شددوا على أهمية بناء "توافقات الحد الأدنى" لمختلف تيارات ومدارس المسيحية العربية والمشرقية، في هذا الظرف الدقيق بالذات، حيث يواجه هذا المكون تهديداً وجودياً، في عدد من بلدان انتشاره، ولأسباب وعوامل شتى.
عاشراً: أصغى المشاركون والمشاركات باهتمام بالغ، لعشرات المداخلات التي شخصت بعض الظواهر السلبية التي تعتمل داخل المجتمعات المسيحية، ومنها بشكل خاص، ما وصفه مشاركون بـ "الفجوة" القائمة بين الكنيسة ورعيتها، خصوصاً الأجيال الشابة منها، وطالبوا رجال الدين المسيحي بالاقتراب أكثر من الهموم والمشكلات التي تواجه أبناء الكنيسة، وتشجيعهم على الانخراط الفاعل في العمل الوطني العام بمختلف أشكاله وميادينه المشروعة
حادي عشر: كما أصغى المشاركون والمشاركات، وباهتمام بالغ أيضاَ، للأصوات المحذرة من تنامي اتجاهات متطرفة وانعزالية، داخل المجتمعات المسيحية، وحثوا قادة هذه المجتمعات السياسيين والروحيين، على بذل أكبر الجهود، لتفادي الوقوع في دائرة "الفعل وردة الفعل"، أو الرد على التطرف بتطرف مقابل، ومن منطلق الإيمان العميق، بأن مجابهة التحديات التي تعترض مسيحيي المنطقة، إنما يكون في إطار وطني – ديمقراطي جامع، فـ "لا حل مسيحياً لمشكلة المسيحيين"
ثاني عشر: إذ ثمّن المشاركون والمشاركات، الجهود التي بذلتها أطراف عديدة في المجتمع الدولي لتقديم الغوث والعون الإنسانيين لمئات ألوف النازحين واللاجئين من مسيحيي دول المنطقة، وبالأخص سوريا والعراق، وإذ لاحظوا ميلاً لتسهيل هجرة هؤلاء إلى مهاجر وملتجآت قريبة أو بعيدة، فقد أجمعوا على وجوب إعطاء الأولوية القصوى لتثبيت المسيحيين في أوطانهم الأصلية، وتوفير شبكة أمان لهم في مواجهة المخاطر والتحديات التي تعترضهم، والعمل مع دول المنطقة بحكوماتها ومختلف الأطراف ذات الصلة فيها، من أجل حفظ الوجود المسيحي فيها وتعزيزه.
خريطة طريق للمستقبل
وبنظرة إلى المستقبل، مستندة إلى هذا الفهم المشترك للتحديات التي تجابه مسيحيي المنطقة، توافق المشاركون والمشاركات، على خطة عمل و"خريطة طريق" للمرحلة المقبلة، تتوزع على المحاور التالية:
على المستوي الإقليمي والدولي:
الحكومات والبرلمانات العربية
توافق المشاركون، على ضرورة حث حكومات وبرلمانات الدول المعنية، للقيام بما تمليه عليها ولاياتها الدستورية، من مسؤوليات لحماية الوجود المسيحي، وتعزيز مواطنة المسيحيين، وإلغاء كافة مظاهر التمييز بين المواطنين على أسس دينية، ومحاربة التطرف والغلو ونزعات الإقصاء والإلغاء، وتعميم ثقافة التسامح والعيش المشترك واحترام الآخر والقبول بالتعددية الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وفي هذا السياق، أجمع المشاركون على التوصيات التالية:
العلماء والمرجعيات والحركات الإسلامية:
لأن الحرب على قوى التطرف والغلو الظلامية، هي حرب على عقول المواطنين وأفئدتهم، ولأن التكفير لا يقاوم إلا بإعمال التفكير، فإن المشاركين والمشاركون يطالبون علماء الدين الإسلامي ومرجعية الأزهر وكافة المفكرين الإسلاميين والحركات الإسلامية العمل على ما يلي:
المجتمعات المسيحية:
إذ أخذ المشاركون والمشاركات علماً بكل ما عرض في المؤتمرات الوطنية والإقليمية لممثلي مجتمعاتهم المسيحية في الدول الست، من قراءات في "حاضر المسيحيين ومستقبلهم"، وما تجابهه هذه المجتمعات من تحديات وصعاب، فقد توافقوا على العمل من أجل:
لجنة متابعة
قرر المشاركون والمشاركات إطلاق اسم "إعلان عمان... خريطة طرق لمستقبل أفضل لمسيحيي البلدان العربية" " على وثيقتهم الختامية هذه، وتشكيل "لجنة متابعة" لتنفيذ ما ورد فيها من توصيات ومهام، على أن تتشكل من ثلاثة أو أربعة ممثلين عن كل تجمع مسيحي في الدول الست، وتضع لنفسها خطة تحرك في المرحلة المقبلة.